روضة الصائم

لسانك حصانك

23 مايو 2019
23 مايو 2019

حمود بن عامر الصوافي -

ربما لا يعرف الكثيرون سبب قتل المتنبي شاعر العربية، أو عرفوا لكنهم تجاهلوا أو نسوا ذلك فأخذوا ما أعجبهم من قصة موته وتركوا ما عدا ذلك وقد يكون مقصدهم إظهار حسنات هذا الشاعر العملاق وتغطية المساوئ وقد قيل اذكروا محاسن مواتكم. وعموما عين الرضا دائما تبدي الإعجاب لمن تحب وتحترم، وعكسها عين السخط:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

وهكذا نحن في حياتنا أقرب ما نكون إلى الأنانية عند تقويم الآخرين أو محاولة ذكر سيرهم ومنقابهم ربما لأننا نريد إظهار بطلنا بمظهر النقاء الخالص فنقع في الأنانية.

وأما الموضوعية التي نتبجح بها دائما ونزعم أننا نسير على خطاها فلا تظهر إلا عند القلة القليلة من الناس بنسب متفاوت ومتباينة تتداخل فيها الرغبة الأكيدة والقيم والمبادئ والتربية الخ

لكنها تختفي عند شيوع الأحقاد والاتهامات والمنافسات فقلما تجد من ينصف زميله المنافس له أو يحاول أن يكون محايدا في وصفه لبغيض له، فأقلهم إنصافا هو ذاك الذي لا يجترئ الكذب على الآخرين لكنه قد يدلس عليهم عن طريق إبراز السوءات دون الحسنات وإظهار جانب دون آخر فيوحي بالظلم والأنانية. وقد تكون هناك أسباب أخرى تعتري مسألة الأنانية والموضوعية عند الحديث عن الآخرين كالشهرة وحب الناس له وعلو شأنه قد يكون مانعا من القدح فيه أو الخوف من الخوض في انتقاده أو التشهير به بيد أن من يقرأ بتمعن يدرك أن بيت الفخر الذي نسب إليه المتنبي سبب القتل لا يعقل أن يكون سببا وجيها وأوليا للقتل فهناك شعراء كثيرون فخروا بأنفسهم وهم غير أهل للفخر فإذا كان أحد يستحق الفخر بنفسه فأنا أرشح أن يكون المتنبي الذي صدع العالم وشغلهم بشعره جديرا بالفخر ولقب شاعر العربية.

فإذن من حق المتنبي أن يفتخر ومن واجنبا أن نصدق فهذا الرجل إن سمي بالمعجزة فقد جازت هذه التسمية ليس لأنه نبي يوحي إليه بل لأنه شغل الدنيا حيا وميتا في حياته وبعد مماته وما زال يثير الكثير من التساؤلات والردود منذ ذلك الزمان وإلى يومنا هذا، فكأنه لا ينطق إلا عن علم وما يتكلم إلا عن دليل لذلك صعب مجاراته أو الاقتراب منه لما امتلك من ناصية الشعر وإبداع في القول وقوة في السبك وعدة في مواجهة خصومه ومجابهة كل من أراد النيل منه أو الترصد له، يكفيه ثناء عبقري العربية له ابن جني صاحب المؤلفات الغزار والنظر الثاقب والعلم العرمرم.

فمما يروى في قصة مقتل المتنبي- كما قلنا- ليس البيت المشهور وإنما تلك القصيدة الشنيعة التي قالها في أخت فاتك الأسدي وابنها ضبة وإليكم مقتطفات منها وما خفي أشد شناعة:

ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه

رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ وَباكَوا الأُمَّ غُلبَه

وَما عَلَيكَ مِنَ القَتــ ــلِ إِنَّما هِيَ ضَربَه

وَما عَلَيكَ مِنَ الغَد رِ إِنَّما هُوَ سُبَّه

وَما عَلَيكَ مِنَ العا رِ إِنَّ أُمَّكَ قَحبَه

وَما يَشُقُّ عَلى الكَلـ ــبِ أَن يَكونَ اِبنَ كَلبَه

ما ضَرَّها مَن أَتاها وَإِنَّما ضَرَّ صُلبَه

أثارت هذه القصيدة حنق فاتك الضبي وأغضبته، فجهز عشرين فارسا لمواجهة المتنبي وقتله فكان الترقب والتربص، وقد حُذّر المتنبي من تربص فاتك له لكنه آثر أن يعتمد على نفسه وسيفه فلا يكونن سبة بين العرب وينعت بالجبن وقيل له خذ معك عشرين فارسا، قال:» والله لا تتحدث العرب أني سرت بخفارة غير سيفي».

فسار بخفارة سيفه لكن ماذا يفعل الشجاع بالكثرة، وقد قيل: الكثرة تغلب الشجاعة، فلما رأى الموت أمامه ماثلا حاول أن يفر من المعركة ويخنس بعيدا لكن غلامه أنّبه وذكّره ببيته المشهور الذي فاخر به

الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

فرجع المتنبي وقاتل حتى قتل.